فصل: سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة اثنتين وستين وخمس مائة

فيها سار أسد الدين السير الثاني إلى مصر ببعض جيش نور الدين فنازل الجيزة شهرين واستنجد وزيرمصرالفرنج فدخلوا إلى النيل من دمياط والتقوا فانتصر أسد الدين وقتل ألوف من الفرنج‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ هذه من أعجب ما أرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر والفرنج‏.‏

ثم استولى أسد الدين على بلاد الصعيد وتقوى بخراجها وأقامت الفرنج بالقاهرة حتى استر أسوا ثم قصدوا الاسكندرية وقد أخذها صلاح الدين فحاصروه أربعة أشهر ثم كرأسد الدين منجداً له فترحلت الملاعين بعد أن قد استقر لهم بالقاهرة شحنة وقطيعة مائة ألف دينار في الشام‏.‏

وصالح شاور أسد الدين على خمسين ألف دينار وأخذها ونزل الشام‏.‏

وفيها قدم قطب الدين صاحب الموصل على أخيه نور الدين فغزوا الفرنج فأخذوا حصناً بعد حصن‏.‏

وفيها احتراق البلادين حرقاً عظيماً حتى صار تاريخاً وأقامت النار أياماً‏.‏

وفيها توفي خطيب دمشق أبو البركات الخضر بن شبل الفقيه الشافعي درس بالغزالية وبالمجاهدية وبنى له نور الدين المدرسة المعروفة بالعمادية‏.‏

وفيها توفي ابن حمدون صاحب التذكرة أبو المعالي محمد بن أبي سعد ألفاتب الملقب كافي الكفاءة البغدادي‏.‏

كان فاضلاً ذا معرفة تامة بالأدب والكتابة من بيت مشهور بإلىئاسة والفضل صنف كتاب التذكرة وهو من أحسن المجاميع يشتمل على التاريخ والأدب والنوادر والأشعار لم يجمع أحد من المتأخرين مثله ذكره العماد ألفاتب في كتاب الخريدة وأنشد لنفسه لغزاً في مروحة الجيش‏:‏ يمر خفيف الريح وهي مقيمة وتسري وقد سدت عليها طريقها لها من سليمان النبي وراثة وقد عزمت نحو النبيط عروقها إذا صدق النوء الشمالي أمحلت وتمطر والجوزاء ذاك حريقها وتحسبها إحدى الصنائع أنها لذلك كانت كل روح صديقها قلت‏:‏ وفي المروحة أيضاً أنشدنا بعض شيوخنا وهو الشيخ الصالح أبو بكر ابن ألفائغ لنفسه‏:‏ وفي عدن حر كأن لهيبه من النار في أرجأنها اليوم لافح أدافع عني بالمراوح جيشه فيا ضعف من يحمي قفاه المراوح وفيها توفي الإمام تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن أبي بكر محمد بن أبي المظفر منصور بن محمد التميمي السمعاني المروزي الفقيه الشافعي ذكره الشيخ عز الدين أبو الحسن علي بن الأثير الجزري في مختصره فقال‏.‏

أبوسعد واسطة عقد البيت السمعاني وعينهم ألفاصرة ويدهم الناصرة وإليه انتهت رئاستهم وبه كملت سيادتهم‏.‏

رحل في طلب العلم والحديث إلى شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها إلى ما وراء النهر وسائر بلاد خراسان مرات وإلى قومس والري وأصبهان وهمدان وبلاد الجبال والعراق والحجاز والموصل والجزيرة والشام وغيرها من البلاد التي يطول ذكرها ويتعذر حصرها ولقي العلماء وجالسهم وأخذ عنهم واقتدى بأفعالهم الجميلة وأثارهم الحميدة وروى عنهم‏.‏

وكانت عدة شيوخه تزيد على أربعة آلاف شيخ وكان حافظاً ثقة مكثراً واسع العلم كثير الفضائل ظريفاً لطيفاً مبجلاً نظيفاً نبيلاً شريفاً وصنف التصانيف الحسنة العزيزة ألفائدة من ذلك تذييل تاريخ بغداد الذي صنفه ألفاضل أبو بكر الخطيب وهو نحو خمسة عشر مجلما‏.‏وتاريخ مرو يزيد على عشرين مجلما والأنساب نحو ثماني مجلمات وهو الذي اختصره الشيخ عز الدين المذكور واستدرك عليه مختصره في ثلاث مجلمات‏.‏

وكانت ولادة أبي سعد يوم الاثنين ألفادي والعشرين في شعبان سنة ست وخمس مائة وكان أبوه إماماً فاضلاً مناظراً فقيهاً محدثاً شافعياً وله عدة تصانيف وشعر غسله قبل موته وإملاء لم يسبق إلى مثله وتوفي أبوه المذكور وقت فراغ الناس من صلاة الجمعة ثاني عشر صفر سنة عشر وخمس مائة‏.‏

وفيها توفي الحافظ المفسر الواعظ الأديب المتقن أبو شجاع عمر بن محمد البسطامي‏.‏

 سنة ثلاث وستين وخمس مائة

وفيها أعطى نور الدين لنائبه أسد الدين حمص وأعمالها فبقيت في يده مائة سنة‏.‏

وفيها توفي أبو محمد عبدالله بن علي الأصبهاني المقرىء كان عألفا زاهداً معمراً‏.‏

وفيها توفي أبو الحسين هبة الله بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الفقيه الشافعي قرأ القراءات وسمع الحديث وتفقه ودرس بالغزالية وأفتى واعتنى بفنون العلم وكان ورعاً خيراً كبير القدر عرضت عليه خطابة البلد فامتنع‏.‏وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ألفارف بالله الخبير ذو المقامات الطية والأحوال السنية والأنفاس الصادقة والكرامات ألفارقة والتصانيف المفيدة الوثيقة في الشريعة والحقيقة أبو النجيب عبد ألفاهر بن عبدالله السهروردي القرشي البكري نسبة إلى أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - بينه وبينه اثنا عشر أباً كان من أعيان المحققين وأعلام العلماء الشاملين وصفوة العارفين وهو أحد من درس بالنظامية وتصدر للفتوى وجمع ووضع التصانيف وكان يلقب مفتي العراقين وقدوة الفريقين انعقد عليه إجماع المشايخ والعلماء بالاحترام وأوقع الله له في الصدور القبول الشام وكان يشرح أحوال القوم ويتطيلس ويلبس لماس العلماء ويركب البغلة ويرفع بين يديه - ألفاشية على ما نقله بعض العلماء في تصنيفه‏.‏

ومن كراماته ما روى بعض أصحابه وهو الشيخ أبو محمد عبدالله بن مسعود المعروف بالرومي قال‏:‏ مررت مرة مع شيخنا أبي النجيب بسوق السلطان ببغداد فنظر إلى شاة مسلوخة معلقة عند جزار فوقف عنده وقال له‏:‏ إن هذه ألفاة تقول لي أنها ميتة فغشي على الجزار فتاب على يدي الشيخ المذكور وأقر بصحة قوله‏.‏

وله كرامات أخرى وكلام نفيس ومحاسن جليلة لا نطول بذكر ذلك‏.‏

وفيها قتل ظلماً القاضي المهذب أبو محمد الحسن ابن القاضي الرشيد الغساني الأسواني وكان أوحد عصره في العلوم الشرعيات والهندسية والرياضيات والآداب والشعريات‏.‏

ومن شعره ما تقدم من قوله في سنة إحدى وستين‏:‏ غيري يغيره عن حسن شيمته صرف الزمان وما يأتي من الغير إلى آخر الأبيات سنة أربع وستين وخمس مائة فيها سار أسد الدين مسيره الثالث إلى مصر وكانت الفرنج قد ملكت تنيس وحاصروا القاهرة وأخذوا كل ما كان خارج السور فكاتب شاور نور الدين واستنجد به وسود كتابه وجعل في طيه ذوائب نساء القصر‏.‏

وكان نور الدين بحلب فساق إليه أسد الدين من حمص فجمع العساكر ثم توجه في عسكر يقال كان سبعين ألفا ما بين فارس وراجل فتقهقرت الفرنج ودخل القاهرة وجلس في دست الملك وخلع عليه العاضد خلع السلطنة وعهد إليه بوزارته وقبض على شاور فأرسل إليه العاضد بطلب رأس شاور فقطعه وأرسل به إليه‏.‏

وشاور المذكور كان قد ولاه الملك الصالح بلاد الصعيد ثم لما مات الملك الصالح دخل القاهرة بالعساكر وقتل الملك ولد الملك الصالح وجلس مكانه‏.‏

ثم بعد شهرين مات أسد الدين فقلد العاضد منصبه ابن أخيه صلاح الدين يوسف ابن نجم الدين ولقبه بالملك الناصر ثم ثار عليه السودان فحاربهم وظفر بهم وقتل منهم قتلاً عظيماً‏.‏

وفيها توفي صاحب دمشق مجير الدين الملقب بالملك المظفر‏.‏

وفيها توفي شاور مقتولاً كما ذكرنا وقد تقدم ذكر قهره لوزير العاضد الملقب بالعادل وقتله له وجلوسه في الوزارة مكانه‏.‏

وفيها توفي شيخ المقرئين بالأندلس أبو الحسن علي بن محمد المعروف بابن هذيل‏.‏

وكان فيه مجموع فضائل من القراءة والزهد والورع والتواضع والتقلل من الدنيا والإعراض عنها وكثرة الصيام والقيام والصدقة والتجويد والإتقان في القراءات‏.‏

وفيها توفي القاضي زكي الدين أبو الحسن علي ابن القاضي أبي المعالي محمد بن يحيى القرشي قاضي دمشق استعفي عن القضاء فأعفي وسار فحج‏.‏

وفيها توفي أبو المعالي محمد بن أبي الحسن علي بن محمد القرشي الأموي العثماني كان ذا فضائل عديدة من الفقه والأدب وغيرهما وله النظم المليح والخطب وإلىسائل وتولى القضاء بدمشق وكانت له عند السلطان صلاح الدين المنزلة السنية والمكانة المكينة ولما فتح السلطان صلاح الدين مدينة حلب أنشده القاضي محيي الدين أبو المعالي المذكور قصيدة أجاد فيها كل الإجادة وكان من جملتها هذا البيت‏:‏ وكان كما قال فإن القدس فتحت لثلاث بقين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فقيل له‏:‏ من أين لك هذا فقال‏:‏ أخذته من تفسير ابن برجان في تفسير قوله تعالى ‏"‏ الم غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ‏"‏ - الروم ا - 3 - والمنقول عن ابن برجان أنه ذكر له حساباً طويلاً وطريقاً في استخراج ذلك حتى حرره من قوله تعالى ‏"‏ بضع سنين ‏"‏‏.‏

ولما ملك صلاح الدين المذكور حلب فوض الحكم والقضاء بها للماضي أبي المعالي المذكور‏.‏

ولما فتح القدس تطاول إلى الخطابة بها يوم الجمعة كل واحد من العلماء الذين كانوا في خدمته حاضرين وجهز كل واحد منهم خطبة بليغة طمعاً في أن يكون هو الذي يعتن لذلك فخرج المرسوم للماضي أبي المعالي المذكور أن يخطب وحضر السلطان وأعيان دولته وذلك في أول جمعة صليت بالقدس بعد الفتح فلما رقي على المنبر استفتح بسورة ألفاتحة ثم قال‏:‏ فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ثم قرأ سورة الأنعام ‏"‏ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ‏"‏ إلى آخر الآيات الثلاث ثم قرأ من سورة سبحان ‏"‏ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولما ولم يكن له شريك في الملك ‏"‏ - الاسراء 1 - الآية ثم قرأ من أول الكهف ‏"‏ الحمد لله ‏"‏ إلى اخر الثلاث الآيات ثم قرأ من النمل ‏"‏ قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ‏"‏ - النمل - ثم قرأ من سورة سبأ ‏"‏ الحمد لله ‏"‏ الخ الآية ثم قرأ من سورة فاطر ‏"‏ الحمد لله فاطر السموات والأرض ‏"‏ - فاطر - وكان قصده أن يذكر جميع تحميدات القرآن الكريم ثم شرع في الخطبة فقال‏:‏ الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ومصرف الأمور جماعة أدباً كثيراً واتفقوا على فضله ومعرفته‏.‏

بأمره ومديم النعم بشكره ومستدرج الكفار بمكره الذي قدر الأيام دولاً بعدله وجعل ألفاقبة للمتقين بفضله وأفاء على عباده من ظله وأظهر دينه على الدين كله ألفاهر فوق عباده فلا يمانع والظاهرعلى خليقته فلا ينازع والآمر بما شاء فلا يراجع وألفاكم بما يريد فلا يدافع أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأولمانه ونصره لأنصاره وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضار حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهراً جهاره وأشهد أن لا آله الا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك ودافع الشرك وداحض الإفك الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعرج به منه إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى عندها جنة ألفاوى ما زاغ البصر وما طغى صلى الله عليه وعلى خيلفته أبي بكر الصديق ألفابق إلى الإيمان وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلمان وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان وعلى آله وأصحابه وألفابعين لهم بإحسان‏.‏

أيها الناس‏!‏ أبشروا برضوان الله الذي هو الداية القصوى والدرجة العلما لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه ألفالة من الأمة ألفالة وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدى المشركين قريباً من مائة عام وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيها اسمه وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بنى عليه وشيد بنيانه بالتمجيد وإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه فهو موطن أبيكم ابراهيم ومعراج نبيكم عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام وقبلتكمم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام وهو مقر الأنبياء ومقدس الأولياء ومدفن إلىسل ومهبط الوحي ومنزل به ينزل الأمر والنهي وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله تعالى في كتابه المبين وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله بالملائكة المقربين وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألفاها إلى مريم وروحه عيسى الذي كرمه برسالته وشرفه بنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ‏"‏ - النساء 172 - كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيداً ما اتخذ الله من ولد وما كان معه إله إذا لذهب كل إله بما خلق وأملا الآية ‏"‏ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ‏"‏ المائدة 17- إلى آخر الآيات من المائدة‏.‏

وهو أول القبلتين وثاني المسجد وثالث الحرمين لا تشد إلىحال بعد المسجدين إلا إليه ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه‏.‏وهذا نحو من ثلث خطبته رمت الاقتصار إيثاراً للاختصار‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو أحمد معمر بن عبد الواحد القرشي العبشمي الأصبهاني سمع من جماعة كثيرين واعتنى بالحديث وجمعه ووعظ وأملا وكان ذا قبول ووجاهة توفني في طريق الحجاز رحمه الله تعالى‏.‏

سنة خمس وستين وخمس مائة فيها وقعت الزلزلة العظمى بالشام وأطنب جماعة في تعظيمها حتى قال بعضهم هلك بحلب تحت الهدم ثمانون ألفا‏.‏

وفيها حاصرت الملاعين الفرنج دمياط خمسين يوماً ثم ارتحلوا من أجل أن نور الدين وصلاح الدين أجلما عليهم وعلى بلادهم براً وبحراً‏.‏

وعن صلاح الدين أنه قال‏:‏ ما رأيت أكرم من العاضد أخرج إلي في هذه المرة ألف ألف دينار سوى الثياب وغيرها‏.‏

يعني بالعاضد أحد الخلفاء العبيديين‏.‏

وفيها حاصر نور الدين سنجار ثم أخذها بالأمان وتوجه إلى الموصل وبنى بها جامعاً ورتب أمورها ثم رجع فنازل الكر ونصب عليها منجنيقي ثم رحل عنها لحرب نجدة الفرنج فانهزموا‏.‏

وفيها توفي أبو الفضل أحمد بن صالح بن شافع الجيلي ثم البغدادي أحد العلماء والمعدلين والفضلاء والمحدثين‏.‏

وفيها توفي صاحب الموصل وابن صاحبها السلطان قطب الدين مودود بن زنكي‏.‏

وفيها توفي أبو المكارم عبد الواحد بن هلال الأزدي المعدل سمع من غير واحد وأجاز له الفقيه نصر وكان رئيساً جليلاً كثير العبادة والبر‏.‏

وفيها توفي أبو بكر بن النقور بالنون وألفاف وفي آخره راء عبدالله بن محمد البغدادي ثقة محدث من اولاد الشيوخ‏.‏

 سنة ست وستين وخمس مائة

فيها توفي أبو زرعة طاهر ابن الحافظ محمد بن طاهر المقدسي ثم الهمذاني‏.‏

وفيها توفي الحافظ المعدل أبو مسعود عبد إلىحمن بن أبي الوفاء علي بن أحمد الأصبها ني‏.‏

وفيها توفي أبو عبدالله محمد بن يوسف الزينبي شاطبة سمع من جماعة قال بعضهم‏:‏ كان عارفاً بالأثر مشاركاً في التفسير حافظاً للفروع بصيراً باللغة والكلام فصيحاً مفوهاً مع الوقار والصمت والصيام والخشوع ولي قضاء شاطبة وحدث وصنف‏.‏

وفيها توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله محمد ابن المستظهر بالله أحمد بن المقتدي العباسي‏.‏

وفيها توفي ابن الجلال القاضي الأديب موفق الدين يوسف بن محمد صاحب ديوان الإنشاء‏.‏ولي بعده القاضي المعروف بألفاضل‏.‏

وفيها توفي المعافري عبد الجبار بن محمد المغربي كان إماماً في اللغة وفنون الأدب اشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به واشتغل ببغداد ودخل الديار المصرية‏.‏

 سنة سبع وستين وخمس مائة

في أولها تجاسر صلاح الدين وقطع خطبة العاضد العبيدي وخطب للمستضيء أميرالمؤمنين العباسي فأعقب ذلك موت العاضد العبيدي يوم عاشوراء فجلس صلاح الدين للعزاء وبالغ في الحزن والبكاء وتسلم القصر وما حوى واهتبط على أهل القصر في مكان أفرد لهم وقرر لهم ما يكفيهم ووصل إلى بغداد أبو نصر سعد بن عصرون رسولاً بذلك فزينت بغداد فرحاً وكانت خطبة بني العباس قد قطعت من مصر مائتي سنة وتسع سنين وحلت مكانها خطبة بني عبيد‏.‏

فأرسله بالخلع لنور الدين وصلاح الدين وكانت خلعة نور الدين فرجية وجبة وقباء وطوق ذهب وزنه ألف دينار ومعها حصان بسرجه وحصان يجنب بين يديه وسيفان ولواء فقفد السيفين إشارة إلى الجمع له بين الشام ومصر‏.‏

وفيها سار نور الدين لحصار الكرك وطلب صلاح الدين فاعتذي فلم يقبل عذره وهم بالدخول إلى مصر وعزل صلاح الدين عنها فبلغ ذلك صلاح الدين فجمع خواصه وواله وخاله شهاب الدين ألفارمي في جماعة أمراء واستشارهم فقال ابن أخيه عمر‏:‏ إذا جاءنا ققاتلناه‏.‏

وتابعه غيره على ذلك من ألفاضرين فشتمهم والد صلاح الدين نجم الدين أيوب وأحد وزيرهم وقال لابنه‏:‏ أنا أبوك وهذا خالك في هؤلاء من يريد لك الخير مثلنا فقال‏:‏ لا قال‏:‏ والله لو رأيت أنا وهذا نور الدين لم يمكنا إلا أن ننزل نقبل الأرض ولو أمرنا بضرب عنقك لفعلنا فما ظنك بغيرنا وهذه البلاد لنور الدين‏!‏ ‏!‏ فإن أراد عزلك فأي حاجة له في المجيء بل يطلبك بكتاب‏.‏

ثم تفرقوا وكتب غير واحد من الأمراء بهذا المجلس المذكور إلى نور الدين فلما خلا نجم الدين بابنه قال‏:‏ أنت جاهل تجمع هذا الجمع وتطلعهم على سرك‏!‏ فلو قصدك نور الدين لم تر منهم معك أحداً فاكتب إليه واخضع له ففعل‏.‏

وفيها توفي يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي القرطبي الملقب صائن الدين أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك ودخل الاسكندرية وسمع من جماعة كثيرة وكذلك بمصر ودخل بغداد وقرأ القران وسمع الحديث على جماعة من أكابر زمانه وكان ديناً ورعاً عليه وقار وسكينة وكان ثقة ثبتاً نبيلاً قليل الكلام كثير الخير مفيداً وأقام بدمشق مدة واستوطن الموصل ودخل أصبهان ثم عاد إلى الموصل وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان شيخنا قاضي حلب بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع يفتخر بقراءته عليه ورويته وكان كل يوم يسمط له دجاجة ويتولى طبخها بيده‏.‏

وكان كثيراً ما ينشد مسنداً إلى أبي الخير ألفاتب الواسطي‏:‏ جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين وفيها توفي العلامة أبو محمد الخشاب عبدالله بن أحمد البغدادي النحوي المحدث طلب وسمع وأكثر وقرأ الكثير وكتب بخطه المليح المتقن وأخذ العربية عن أبي السعادات ابن الشجري وابن الجواليقي وأتقن النحو واللغة والتصريف والنسب والفرائض والحساب والهندسة وغير ذلك وصنف التصانيف‏.‏

وكان إليه المنتهى في حسن القراءة وسرعتها وفصاحتها مع الفهم والعذوبة وانتهت إليه الإمامة في النحو وكان متضلما من العلوم وخطه في نهاية الحسن وكان ظريفاً مزاحاً وله شعر قليل من ذلك قوله في كتاب اللغز‏:‏ وذي أوجه لكنه غير بائح بصر وذو الوجهين للسر مظهر تناجيك بالأسرار أسرار وجهه فتسمعها بالعين ما دمت تنظر وهذا المعنى مأخوذ من قول المتنبي في ابن العميد‏:‏ خلقت صفاتك في العيون كلامه كالخط يملاء مسمعي من أبصرا وشرح كتاب الجمل لعبد ألفاهر الجرجاني وسماه‏:‏ المرتجل في شرح الجمل وترك أبواباً في وسط الكتاب ما تكلم عليها وشرح اللمع لابن جني ولم يكمله‏.‏

وكانت فيه بزازة وقلة اكتراث بألفاكل والملابس وسخ الثياب يسقى في جرة مكسورة وما تأهل قط ولا تسرى‏.‏

وذكر العماد انه كان بينه وبينه صحبة ومكاتبات قال‏:‏ ولما مات رأيته في المنام فقلت‏:‏ ما فعل الله بك قال‏:‏ خيراً فقلت‏:‏ فهل يرحم الله الأدباء فقال‏:‏ نعم فقلت‏:‏ وإن كانوا مقصرين فقال‏:‏ يجري عتاب كثير ثم يكون بعده النعيم‏.‏

انتهى‏.‏قلت فافهم معنى هذا الكلام أيها الواقف عليه إنما ذكر هذا للمقصرين في الخيرات لا للماصين أولي السيئات كأمثالنا‏.‏

نسأل الله الكريم أن يسامحنا ويعفو عنا‏.‏

وفيها توفي العاضد لدين الله عبدالله ابن الحافظ لدين الله العبيدي المصري أحد خلفاء ألفاطنية‏.‏

وفي أيامه قدم حسين بن نزار بن المستنصري في جموع من المغرب فلما قرب منه غدر به أصحابه وقبضوا عليه وحملوه إلى العاضد فذبحه صبراً‏.‏

وكان موت العاضد بإسهال مفرط وقيل‏:‏ مات غماً لما سمع بقطع خطبته‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن بن النعمة على بن عبدالله الأنصاري الأندلسي أحد الأعلام تصدر لإقراء القرآن والحديث الفقه والنحو واللغة وكان عألفا حافظاً للفقه والتفاسير ومعاني الآثار مقدماً في علم اللمان - فصيحاً مفوهاً ورعاً فاضلاً معظماً دمث الأخلاق‏.‏

انتهت إليه رئاسة الإقراء والفتوى وصنف كتاباً كبيراً في شرح سنن النسائي بلغ فيه الداية‏.‏

وفيها توفي أبو المظفر محمد بن أسعد بن الحكي كان له القبول الشام في الوعظ بدمشق سمع ودرس وصنف تفسير القرآن وشرح مقامات الحريري‏.‏

وفيها توفي أبو حامد النووي الطوسي الفقيه الشافعي محمد بن محمد تلميذ محمد ابن يحيى‏.‏

كان إليه المنتهى في معرفة علم الكلام والنظر والبلاغة والجدل بارعاً في معرفة مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري وصنف في الخلاف تعليقة جيدة وله جدل مليح سماه‏:‏ المقترح في المصطلح أكثر الفقهاء الاشتغال به وشرحه الفقيه أبو الفتح مظفز بن عبدالله المصري شرحاً مستوفي وكان حلو العبارة ذا فصاحة وبراعة دخل بغداد فصادف قبولاً وافراً من الشام وألفاص وكان يحضر عنده كل يوم خلق كثير وله حلقة المناظرة بجامع القصر ويحضر عنده المدرسون والأعيان ويجلس للوعظ في النظامتة - ومدرسها يومئذ ألفاشي أحمد بن عبدالله - وكان هو يدرس في المدرسة النهائية قريباً من النظامية يذكر فيها كل يوم عدة دروس‏.‏

وذكر بعض المؤرخين أنه وعظ وبعد صيته وشغب على الحنابلة فأصبح ميتاً ويقال إن الحنابلة أهدوا له مع امرأة صحن حلواء مسمومة‏.‏

وفيها توفي الإمام أبو بكر الأزدي يحيى بن سعدون القرطبي النحوي نزيل الموصل وشيخها سمع بقرطبة ومصر وبغداد وأخذ عن الزمخشري وبرع في العربية والقراءات وتصدر فيها مدة‏.‏

وكان ذا عبادة وورع وتبحر في العلوم‏.‏وفيها توفي أبو الفتوح نصرالله بن قلانس ألفاعر اللخمي الإسكندري‏.‏

كان شاعراً مجيداً وفاضلاً نبيلاً صحب الشيخ الحافظ أبا طاهر السلفي وانتفع بصحبته وأثنى عليه الحافظ المذكور ودخل بلاد اليمن وامتدح بعض الوزارء في مدينة عدن فأحسن إليه وأجزل صلتة تم ركب البحر فغرق جميع ما كان معه فعاد إليه عرياناً وأنشده قصيدة مطلعها‏:‏ صدرنا وقد نادى السماح بنا ردوا فعدنا إلى مغناك والعود أمد وأنشده أيضاً قصيدة مفتتحها‏:‏ سافر إذا حاولت قدراً سار الهلال فعاد بدرا والماء يكسب ماجرى طيبا ًويخبث ما استقرا وتنقل الدرر النفيسة بدلت بالبحر نحرا ومعنى البيت الثاني مأخوذ من قول بديع الزمان‏:‏ الماء إذا طال مكثه ظهر خبثه‏.‏

والبيت الثالث مأخوذ من قول صرد ألفاعر وهو‏:‏ نقل ركابك في الفلا ودع الغواني في الخدور لولا التنقل ما ارتقى درر البحور إلى النحور فيها دخل قراقوش - بألفاق مكررة والشين المعجمة - ابن أخي السلطان صلاح الدين بلاد المغرب فنازل طرابلس مدة وافتتحها - وكان للفرنج -‏.‏

وفيها سار شمس الدولة أخو صلاح الدين إلى اليمن فافتتحها وقبض على المتغلب عليها الزنديق المسمى بعبد النبي‏.‏

وفيها حاصر صلاح الدين الكرك ولم يفتتحها في هذه المرة‏.‏

وفيها سار نور الدين فافتتح بهنسة وغيرها ثم دخل الموصل ودان له صاحب الروم‏.‏

وفيها توفي الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي - بالشين والذال المعجمتين - ويلقب بالملك الأفضل والد الملوك‏:‏ صلاح الدين وسيف الدين وشمس الدولة وسيف الإسلام وشاهنشاه وتاج الملوك بوري وست الشام وربيعة خاتون وأخو الملك أسد الدين‏.‏

شب به فرسه فحمل إلى داره ومات بعد أيام وكان يلقب بالأجل الأفضل‏.‏وأول ما ولي نجم الدين المذكور ولاية قلعة تكريت بعد ولاية أبيه لها بتولية وإليها نائب السلطان غياث الدين مسعود السلجوقي ثم إن النائب المذكورغضب على نجم الدين بسبب أخيه أسد الدين وذلك أنه مرت عليه امرأة باكية فسألها كن سبب بكأنها فذكرت له أنه تعرض لها إنسان فتناول أسد الدين حربة بيد ذلك الإنسان وضربه بها فقتله فأمسكه أخوه نجم الدين واعتقله وكتب إلى النائب يعرفه بذلك فوصل جوابه وهو يقول لأبيكما‏:‏ علي حق وبيني وبينه مودة مؤكدة فما يمكنني أن أكافئكما بسيئة تصدر مني ولكني أشتهي منكما أن تخرجا من بلدي‏.‏

فلما وصلهما الجواب ما أمكنهما المقام بتكريت فخرجا منها ووصلا إلى الموصل فأحسن إليهما الأتابك عماد الدين زنكي وزاد في إكرامهما والإنعام عليهما وأقطعهما إقطاعاً جسناً ثم لما ملك الأتابك قلعة بعلبك استخلف بها نجم الدين أيوب وفيها بنى خانقاهاً للصوفية يقال لها النجمية - وهي منسوبة إليه - عمرها في مدة إقامته بها وكان رجلاً مباركاً كثير الصلاح مائلاً إلى أهل الخير حسن النية جميل الطوية ديناً عاقلاً كريماً وفي سيرته وما جرى له كلام طويل ذكروا في آخره أنه لما تولى ولده صلاح الدين وزارة الديار المصرية في أيام العاضد صاحب مصر من العبيديين استدعى أباه نجم الدين المذكور من الشام‏.‏

- وكان في دمشق في خدمة السلطان نور الدين محمود بن زنكي - فجهزه نور الدين وأرسله إليه فدخل القاهرة لست بقين من رجب سنة خمس وستين وخمسمائة وخرج العاضد إلى لقائه إكراماً لولده صلاح الدين وفعل معه من الأدب ما هو اللائق بمثله وعرض صلاح الدين على والده المذكور أمر الوزارة كله وجعله له فأبى وقال‏:‏ يا ولدي ما اختارك الله لهذا الأمر إلا وأنت أهل له ولا ينبغي أن تغير موضع السعادة‏.‏

ولم يزل عنده حتى استقل صلاح الدين بمملكة البلاد - كما سيأتي في ترجمته - ثم خرج صلاح الدين إلى الكرك ليحاصرها وأبوه بالقاهرة فركب يوماً ليسير على عادة الجند فخرج من باب النصر - أحد أبواب القاهرة - فشبت به فرسه فألقاه وبقي متألفا أياماً ثم توفي - رحمه الله تعالى -‏.‏

وفيها توفي ملك النحاة أبو نزار الحسن بن صافي البغدادي‏.‏

كان نحوياً بارعاً أصولياً متكلماً رئيساً ماجداً قدم دمشق واشتغل بها وصنف في الفقه والنحو والكلام وعاش ثمانين سنة‏.‏

وسمع الحديث وقرأ مذهب الإمام الشافعي وأصول الدين على أبي عبدالله القيرواني والخلاف على أسعد الميهن وأصول الفقه على أبي الفتح بن برهان صاحب الوجيز والوسيط في أصول الفقه وقرأ النحو على الفصيحي والفصيحي قرأ على عبد القاهر الجرجاني صاحب الجمل الصغير وسافر إلى خراسان وكرمان وغزنة ورحل إلى الشام واستوطن دمشق وتوفي بها‏.‏

وله مصنفات كثيرة في الفقه والأصلين والنحو وله ديوان شعر ومدح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقصيدة ومن شعره‏:‏ سلوت بحمد الله عنها فأصبحت دواعي الهوى من نحوها لا أجيبها على أنني لا شامت - إن أصابها بلاء راض لواش بعيبها ولقب نفسه ملك النحاة وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك وأخذ عنه جماعة ادباء كثيراً واتفقوا على فضله ومعرفته‏.‏

 سنة تسع وستين وخمس مائة

فيها توفي الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي كان ملكاً عادلاً زاهداً عابداً ورعاً متمسكاً بالشريعة مائلاً إلى الخير مجاهداً في سبيل الله كثير الصدقات بنى المدارس في بلاد الإسلام الكبار مثل دمشق وحلب وبعلبك ومنبج والرحب وبنى بمدينة الموصل الجامع النوري وبحماة الجامع الذي على نهر العاصي وجامع الره وجامع منبج ومارستان دمشق ودار الحديث بها وله من المناقب وألفاثر والمفاخر ما يستغرق الوصف وكان في الأولياء معدوداً من الأربعين وصلاح الدين من الثلاث مائة ذكر ذلك بعض الشيوخ العارفين‏.‏لما قتل أبوه سار في خدمته صلاح الدين محمد بن أيوب وعساكر الشام إلى مدينة حلب وحماة وحمص ومنبج وحران فملكها وملك أخوه سيف الدين الموصل وما والاها ثم إن نور الدين نزل على دمشق محاصراً لها - وصاحبها يومئذ مجير الدين أتابك الملك رواق بن تتش بالمثناة من فوق مكررة ثم الشين المعجمة السلجوقي - وكان نزول نور الدين عليها ثالث صفر سنة تسع واربعين وخمس مائة وملكها يوم الأحد تاسع الشهر المذكور ثم استولى على بقية بلاد الشام من حمص وحماة وبعلبك - وهو الذي بنى سورها - ومنبج وما بين ذلك وافتتح من بلاد الروم عدة حصون منها مرعش وبهنسا وتلك الأطراف وافتتح أيضاً من بلاد الفرنج أيضاً حارم وعزاز وبانياس وغير ذلك مما يزيد عدته على خمسين حصناً ثم سير الأمير أسد الدين عم صلاح الدين إلى مصر ثلاث مرات وملكها السلطان صلاح الدين في المرة الثالثة نيابة عنه وجعل اسمه في الخطبة والسكة‏.‏

وكان بينه وبين أبي الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية - وإليه تنسب الطائفة السنية مكاتبات ومحاورات بسبب المحاورة - فكتب إليه نور الدين في بعض الأزمنة كتاباً يهدده فيه ويتواعده بسب اقتضاء ذلك فشق على سنان فكتب جوابه أبياتاً ورسالة‏:‏ يا ذا الذي بقراع السيف هددنا لا قام مصرع جنبي حين تصرعه قام الحمام إلى البازي يهدد فاستيقظت لأسود البر أصيعه أضحى يسد - فم الأفعى بإصبعه يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه وقفنا على تفصيله وحمله وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله فيا لله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل وبعوضة تعد في التماثيل ولقد قالها من قبلك قوم آخرون فدمرنا عليهم ما كان لهم من ناصرين أو للحق تدحضون وللباطل تنصرون وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون‏.‏

وأما ما صدر من قولك في قطع رأسي وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي فتلك أماني كاذبة وخيالالت غير صائبة فإن الجواهر لا تزول بالأعراض كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض كم من قوي وضعيف ودنيء وشريف فإن عدنا إلى الظواهر والمحسوسات وعدلنا عن البواطن والمعقولات فلنا أسوة رسول - الله صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله‏:‏ ‏"‏ ما أوذي نبي ما أوذيت ‏"‏ وقد علمتم ما جرى على عترته وأهل بيته وشيعته والحال ما حال والأمر ما زال ولله الحمد في الآخرة والأولى إذ نحن مظلومون لا ظالمون ومغصوبون لا غاصبون وإذا ‏"‏ جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ‏"‏ وقد علمتم ظاهر حالنا وكيفية رحالنا وما يتمنوه من الفوت ويتقربون به إلى حياض الموت قل ‏"‏ فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ‏"‏ - الجمعة و 7 - وفي أمثال العاقة السائرة‏:‏ أو للبط تهددون بالشط فهيىء للبلايا جلباباً وتدرع للرزايا أثواباً فلأظهرن عليك منك ولأتعبنهم فيك عنك فتكون كالباحث عن حتفه بظلفه والجادع مارن أنفه بكفه وما ذلك على الله بعزيز‏.‏

وفي رواية‏:‏ فإذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد ومن حالك على اقتصاد واقرأ أول النحل وآخر ص‏.‏

والصحيح أنه كتب هذا اللفظ إلى السلطان صلاح الدين بن أبي أيوب وبالجملة فإن محاسن نور الدين كثيرة وسيرته في حسنها شهيرة‏.‏

وكانت وفاته - رحمه الله تعالى - بعلة الخوانيق وأشار عليه الأطباء بالقصد فامتنع وكان مهيباً فما روجع ودفن في بيت بقلعة دمشق كان يلازم الجلوس فيه والمبيت أيضاً ثم نقل إلى تربته بالمدرسة التي أنشأها عند باب سوق الخواصين‏.‏

وروي عن جماعة أن الدعاء عند قبره مستجاب وكانت ولادته سنة إحدى عشرة وخمس مائة فجميع عمره نيف وخمسون سنة وكان قد عهد بالملك إلى ولده الملك الصالح اسماعيل فقام من بعده وخرج السلطان صلاح الدين من مصر وملك دمشق وغيرها في بلاد الشام وتركه في مدينة حلب ولم يزل بها حتى توفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة‏.‏

وكان لموته وقع عظيم في قلوب الناس وتأسفوا عليه لأنه كان محسناً محمود السيرة - رحمه الله تعالى -‏.‏وفيها وعظ الشهاب الطوسي ببغداد فقال‏:‏ ابن ملجم لم يكفر بقتل علي - رضي الله تعالى عنه - فرجموه بالآجر وهاجت الشيعة فلولا العلماء لقتل وحرقوا منبره وهيؤوا له للمعياد الآتي قوارير النفط - ليحرقوه ولامه نقيب النقباء فأساء الأدب فنفوه فذهب إلى مصر وارتفع بها شأنه وعظم‏.‏وفيها توفي الحافظ أبوعلي العطار الحسن بن أحمد الهمداني المقرىء الأستاذ شيخ همدان وقارئها وحافظها‏.‏رحل وحمل القراءات والحديث قرأ بواسطة علي القلانسي وببغداد على جماعة وسمع من ابن بيان وطبقته وبخراسان من الفراوي وطبقته وبرع على حافظ زمانه في حفظ ما يتعلق بالحديث من الأنساب والتواريخ والأسماء والكنى والقصص والسير وله تصانيف في القراءات والحديث والرقائق في مجلدات كبيرة منها كتاب زاد المسافر خمسون مجلداً‏.‏

وكان إماماً في العربية وحفظ في اللغة كتاب الجمهرة وأخرج جميع ما ورثه وكان أبوه تاجراً وسافر مراراً ماشياً يحمل كتبه على ظهره ويبيت في المساجد ويأكل خبز الدخن إلى أن نشر الله تعالى ذكره في الآفاق‏.‏

قال ابن النجار‏:‏ هو إمام في علوم القرآن والحديث والأدب والزهد والتمسك بالأثر‏.‏

وفيها توفي سعيد بن المبارك البغدادي النحوي المعروف بابن الدهان صاحب التصانيف الكثيرة ألف شرحاً للإيضاح في ثلاثة وأربعين مجلداً وكان سيبويه زمانه‏.‏وفيها توفي المسمى بعبد النبي ابن المهدي الذي تغلب على اليمن وتلقب بالمهدي‏.‏

وكان أبوه أيضاً قد استولى على اليمن فظلم وغشم وذبح الأطفال وكان باطنياً من دعاة المصريين بني عبيد وهلك سنة ست وستين وقام بعده ولده المذكور فاستباح الحرائر وتمرد على الله فقتله شمس الدولة كما مضى‏.‏

وفيها توفي الفقيه عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني الشافعي الفرضي نزيل مصر وشاعر العصر‏.‏

كان شديد التعصب للسنة أديباً ماهراً ولم يزل يماشي الحال في دولة المصريين إلى أن ملك صلاح الدين فمدحه ثم إنه شرع في أمور وأخذ مع رفاق من الرؤساء في التعصب للعبيديين وإعادة دولتهم فنقل أمرهم - وكانوا ثمانية - إلى صلاح الدين فسبقهم في رمضان‏.‏

ذكر في بعض تآليفه أنه من قحطان وأن وطنه من تهامه اليمن‏:‏ مدينة يقال لها برطان من وادي سباع وبعدها من مكة في مهب الجنوب أحد عشر يوماً‏.‏

واشتغل بالفقه في زبيد مدة أربع سنين وحج سنة تسع وأربعين وخمس مائة وسيره قاسم بن هاشم صاحب مكة - شرفها الله تعالى - إلى الديار المصرية - وصاحبها يومئذ الفائزين الحمد للعيش بعد العزم والهمم حمداً يقوم بما أوليت من نعم لا أجحد الحق عندي للركاب به تمنيت اللجم فيها ريتة الخطم قرير بعد مرار العيش من نظري حتى رأيت إمام العصر من أمم وأجري من الكعبة البطحاء والحرم السامي إلى كعبة المعروف والكرم إلى أن قال‏:‏ أقسمت بالفائز المعصوم معتقداً فوز النجاة وأجري البر في القسم لقد حمى الدين والدنيا وأهلهم وزيره الصالح الفراج للغمم خليفة ووزير مد عدلهما ظلاً على مفرق الإسلام والأمم زيادة النيل نقص عند فيضهما فما عسى تتعاطى منية الديم فاستحسنا قصيدته وأجز لاصلته ثم رجع متوجهاً إلى مكة ثم منها إلى زبيد في سنة إحدى وخمسين ثم حج من عامه فأعاده صاحب مكة المذكور في رسالة إلى مصر مرة ثانية فاستوطنها ولم يفارقها بعد‏.‏وكانت بينه وبين الكامل بن شاور صحبة مؤكدة قبل وزارته فلما وزر استحال عليه فكتب إليه‏:‏ إذا لم يسالمك الزمان فحارب وباعد إذا لم تنتفع بالأقارب فقد هد قدماً عرش بليقس هدهد وخرب فأر قبل ذا سد مأرب إذا كان رأس ألفال عمرك فاحترز عليه من الإنفاق في غير واجب مع أبيات اخرى بالغة في الحسن وقوله‏:‏ من أمم هو بفتح الهمزة والميم الأولى يقال‏:‏ أخذت ذلك من أمم أي من قرب‏.‏

قال زهير‏:‏ وحيره ما هم لو أنهم أمم أي‏:‏ لو أنهم بالقرب مني‏.‏والأمم أيضاً الشيء اليسير يقال‏:‏ ما سألت إلا أمماً‏.‏

وأما الأمم بضم الهمزة في قوله‏:‏ ظل على مفرق الإسلام والأمم فهو جمع أمة‏.‏

 سنة سبعين وخمس مائة

فيها قدم صلاح الدين وأخذ دمشق بلا ضربة ولا طعنة وسار الصالح اسماعيل في حاشيته إلى حلب ثم سار صلاح الدين فحاصر حمص بالمجانيق ثم سار فأخذ حماة ثم حاصر حلب ثم رد وتسلم حمص ثم عطف إلى بعلبك فتسلمها ثم كر والتقى صاحب الموصل مسعود بن مودود فإنهزم عسكر الموصل أسوأ هزيمة ثم وقع الصلح‏.‏واستناب بدمشق أخاه سيف الإسلام وكان بمصر أخوه العادل‏.‏وفيها توفي أحمد بن المبارك خادم الشيخ عبد القادر الذي كان يبسط المرقعة له على الكرسي‏.‏

وفيها توفي القاضي علي بن عمر بن عبد العزيز بن قرة اليمني‏.‏

كان حافظاً في التفسير واعظاً على المنابر مقبول الكلمة في أهل بلده عارفاً بتأويل الرؤيا‏.‏قيل‏:‏ إن رجلاً رأى في المنام الفقيه نعيماً العشاري الذي كان يحفظ عشرة علوم فسأله عن رؤيا فقال‏:‏ إن تأويل الرؤيا يا صرف عني إلى القاضي علي بن عمر‏.‏

توفي في الطرية - بتشديد الياء المثناة من تحت وفتح الطاء المهملة وكسر الراء - قرية في ناحية مسجد الرباط من بلاد اليمن بساحل عدن‏.‏سنة احدى وسبعين وخمس مائة فيها شنق السلطان المبتدع ابن مهدي - الملقب نفسه عبد النبي - هو وأخوه أحمد في زبيد برسم السلطان شمس الدولة أول من ملك اليمن من بني أيوب‏.‏

وابن مهدي المذكور من الآفات الكائنات والبليات والفتن العظيمات في بلاد اليمن‏.‏

وفيها نقض صاحب الموصل الصلح وسار إلى السلطان سيف الدين غازي فالتقاه صلاح الدين بنواحي حلب فانهزم غازي وجمعه - وكانوا ستة آلاف وخمس مائة - لم يقتل سوى رجل واحد ثم سار صلاح الدين فأخذ منبج ثم نازل قلعة عزاز ووثب عليه الإسماعيلية فجرحوه في خد فأخذوا وقتلوا وافتتح القلعة ثم نازل حلب شهراً ثم وقع الصلح‏:‏ وترحل عنهم وأطلق قلعة عزاز لولد السلطان نور الدين علي‏.‏

وفيها توفي الفقيه الإمام المحدث البارع الحافظ المتقن الضابط ذو العلم الواسع شيخ الإسلام‏.‏

ومحدث الشام ناصر السنة قامع البدعة زين الحافظ بحر العلوم الزاخر رئيس المحدثين المقر له بالتقدم العارف ألفاهر ثقة الدين أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الذي اشتهر في زمانه بعلو شأنه ولم ير مثله في أقرانه الجامع بين المعقول والمنقول والمميز بين الصحيح والمعلوم كان محدث زمانه ومن أعيان الفقهاء الشافعية غلب عليه الحديث واشتهر به وبالغ في طلبه إلى أن جمع منه ما لم يتفق لغيره رحل وطوف وجاب البلاد ولقي المشايخ وكان رفيق الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني في الرحلة وكان أبو القاسم المذكور حافظاً ديناً جمع بين معرفة المتون والاسانيد سمع ببغداد في سنة عشر وخمسمائة من أصحاب البرمكي والتنوخي والجوهري ثم رجع إلى دمشق ثم رحل إلى خراسان ودخل نيسابور وهراة وأصبهان والجبال وصنف التصانيف المفيدة وخرج التخاريج وكان حسن الكلام على الأحاديث محظوظاً على الجمع والتأليف صنف التاريخ الكبير لدمشق في ثمانين مجلداً أتى فيه بالعجائب وهوعلى نسق تاريخ بغداد‏.‏

قال الإمام ابن خلكان‏:‏ قال لي شيخنا الحافظ العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري - رحمه الله تعالى - وقد جرى ذكر تاريخ ابن عساكر المذكور وأخرج لي منه مجلداً وطال الحديث في أمره واستعظامه‏:‏ ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل على نفسه وشرع في الجمع من ذلك الوقت وإلا فالعمر يقصرعن أن يجمع الإنسان فيه مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال والتنبيه‏.‏

قال‏:‏ ولقد قال الحق ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول ومتى يتسع الإنسان الوقت حتى يضع مثله وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره وما صح له إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها وله تآليف حسنة غيره وأخرى ممتعة قال‏:‏ وله شعر لا بأس به فمن ذلك قوله على ما قيل‏:‏ ألا إن الحديث أجل علم وأشرفه الأحاديث العوالي وأنفع كل علم منه عندي وأحسنه الفوائد في الأمالي وإنك لن ترى للعلم شيئاً محققه كأفواه الرجال فكن يا صاح ذا حرص عليه وخذه من الرجال بلا ملال ولا تأخذه من صحف فترمى من التصحيف بالداء العضال ومن المنسوب إليه أيضاً‏:‏ أيا نفس ويحك جاء المشيب فما ذا التصابي وما ذا العزل تولى شبابي كأن لم يكن وجاء مشيبي كأن لم يزل كأني بنفسي على غرة وخطب المنون بها قد نزل وقد التزم في هذه الأبيات ما لا يلزم وهو اطراد الزاي قبل اللام والبيت الثاني هو بيت علي بن جبلة حيث يقول‏:‏ شباب كأن لم يكن وشيب كأن لم يزل وليس بينهما إلا تغييريسير كما تراه‏.‏

وقال بعض أهل العلم بالحديث والتواريخ‏:‏ ساد أهل زمانه في الحديث ورجاله وبلغ فيه الذروة العليا ومن تصفح تاريخه علم منزلة الرجل في الحفظ‏.‏

قلت‏:‏ بل من تأمل تصانيفه من حيث الجملة علم مكانه في الحفظ والضبط للعلم والاطلاع وجودة الفهم والبلاغة والتحقيق والاتساع في العلوم وفضائل تحتها من المناقب والمحاسن كل طائل‏.‏

ومن تآليفه الشهيرة المشتملة على الفضائل الكثيرة كتاب‏:‏ تبيين كذب المفتري فيما ذسب إلى الشيخ الإمام أبي الحسن الأشعري

جمع فيه بين حسن العبارة والبلاغة والإيضاح والتحقيق واستعياب الأدلة النقلية وطرقها مع إسناد كل طريق‏.‏

وذكر فيه طبقات أعيان أصحابه من زمان الشيخ أبي الحسن إلى زمانه وأوضح ماله من المناقب والمكارم والفضائل والعزائم ورد إلى من رماه وافترى عليه بالعظائم‏.‏

قلت‏:‏ وكتابه المذكور الذي وفق لإنشائه ووضعه قد اختصرته أنا في نحو من ربعه وسميته‏:‏ الشاش المعلم شاؤش كتاب المرهم

المعلم بشرف المفاخر العلية في مناقب الأئمة الأشعرية ذكر هو فيه قريباً من ثمانين إماماً من أعيان الأئمة الأشعرية ووفيته فيما اختصرته مائة من الأئمة الجلة النقية واختصاري له بحذف الأسانيد اختصاراً على ما هو المقصود والمراد من ذكر أعيان الأئمة المشهورين بالموافقة في الاعتقاد والرد على المبتدعين أولي الزيغ والإلحاد‏.‏

وكان ابن عساكر المذكور - رضي الله عنه - حسن السيرة و السريرة‏.‏

قال الحافظ الرئيس أبو المواهب‏:‏ لو أر مثله ولا من اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة منذ أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة وعدم التطلع وتحصيل الأملاك وبناء الدور قد أسقط ذلك عن نفسه وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة إياها بعد ما عرضت عليه وقلة الالتفات - أو قال -‏:‏ عدم الالتفات إلى الأمراء وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المكنر لا تأخذه في الله لومة لائم ذكره الإمام الحافظ ابن النجار في تاريخه فقال‏:‏ إمام المحدثين في وقته ومن انتهت إليه الرئاسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة والثقة وبه ختم هذا الشأن‏.‏

وقال ابنه الحافظ أبو محمد القاسم‏:‏ كان أبي - رحمه الله تعالى - مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن يختم في كل جمعة وفي شهر رمضان في كل يوم ويحيي ليلة النصف للعيدين وكان كثير النوافل والإذكار ويحاسب نفسه على كل لحظة يذهب في غير طاعة‏.‏

سمع من جماعة من المحدثين كثيرين نحواً من ألف وثلاث مائة شيخ وثمانين امرأة وحدث بأصبهان وخراسان وبغداد وغيرها من البلاد وسمع منه جماعة من كبار الحفاظ وخلق كثير وجم غفير‏.‏

وقال الحافظ عبد القاهر الرهاوي‏:‏ رأيت الحافظ السلفي والحافظ أبا العلاء الهمداني والحافظ أبا موسى المدني فما رأيت فيهم مثل ابن عساكر رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي السيد الفقيه الورع الزاهد أبو بكر بن سالم بن عبدالله من جبال اليمن استأذن عليه السلطان شمس الدولة فتبرك بالسلام عليه واستسعد بالنظر إليه وسأله الدعاء وأن يمسح له على بدنه‏.‏

وفيها توفي جعدة العطاردي الإمام مجد الدين الفقيه الشافعي الأصولي الواعظ أبو منصور محمد بن أسعد - الطوسي - تلميذ الإمام البغوي وراوي كتابيه‏:‏ شرح السنة ومعالم التنزيل‏.‏

دخل بلداناً كثيرة وتفقه وبعد صيته في الوعظ هكذا ذكر بعضهم‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ كان فقيهاً فاضلاً واعظاً فصيحاً أصولياً اشتغل على الإمام السمعاني ثم على الإمام البغوي وذكر تنقله إلى مرو ثم إلى مرو روذ ثم إلى بخارى وعوده إلى مرو وعقد مجلس الوعظ له بها ثم انتقل إلى العراق ثم إلى الموصل واجتمع الناس عليه بسبب الوعظ وسمعوا منه الحديث وأنشد يوماً على الكرسي من جملة أبياته‏:‏ تحية صوب المزن يقرأها الرعد على منزل كانت تحل به هند تأت فأعرناها القلوب صبابة وعارية العشاق ليس لهارد سنة اثنتين وسبعين وخمس مائة فيها أمر السلطان صلاح الدين ببناء السور الكبيرالمحيط بمصر والقاهرة من البر وطوله تسع وعشرون ألف ذراع وثلاث مائة ذراع بالقاسمي فلم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين‏.‏

وأنفق عليه أموالاً لا تحصى وأمر أيضاً بإنشاء قلعة الجبل ثم توجه إلى الاسكندرية وسمع الحديث من السلفي‏.‏

وفيها وقعة مقدم السودان المسمىبالكنز جمع جيشاً بالصعيد وسار إلى القاهرة في مائة ألف فخرج له لحربه نائب مصر سيف الدولة فالتقوا فانكسر الكنز وقتل في المصاف من السودان قيل‏:‏ ثمانون ألفاً‏.‏

وفيها توفي أبو محمد عبدالله بن عبدالله بن عبد الرحمن الأموي العثماني الديباجي محدث الإسكندرية وكان صالحاً متعففاً يقرىء النحو واللغة والحديث‏.‏

وفيها توفي أبو الفضل قاضي القضاة ابن السهروردي ومن جلالته أن السلطان صلاح الدين لما أخذ دمشق وتمنعت عليه القلعة أياماً مشى إلى دار القاضي أبي الفضل المذكور فانزعج وخرج ليلقاه فدخل وجلس وقال‏:‏ طب نفساً فالأمر أمرك والبلد بلدك‏.‏

 سنة ثلاث وسبعين وخمس مائة

فيها وقعة الرملة سار صلاح الدين من مصر فسبى وغنم بلاد عسقلان وسار إلى الرمل فالتقى الفرنج فحملوا على المسلمين وهزموهم وثبت السلطان صلاح الدين وابن أخيه تقي الدين ودخل الليل واحتوت الفرنج على العسكر بما فيه وتمزق العسكر وعطشوا في الرمال وأستشهدوا جماعة وتحير صلاح الدين ونجا وقتل ولد لتقي الدين عمره عشرون سنة وأشر الأمير الفقيه عيسى الهكاري وكانت نوبة صعبة ونزلت الفرنج على حماة وحاصرتها أربعة أشهر لاشتغال السلطان بلم سعث الجيش‏.‏

وفيها توفي السلطان أرسلان السلجوقي والوزير أبو الفرج محمد بن عبدالله بن هبة الله وكان جواداً سرياً معظماً مهيباً خرج للحج في تجمل عظيم فوثب عليه واحد من الباطنية فقتله فى أوائل ذي القعدة‏.‏

وفيها توفي أبو محمد ابن المأمون الأديب هارون بن العباس العباسي المأموني البغدادي صاحب التاريخ وشرح أيضاً مقامات الحريري‏.‏

 سنة اربع وسبعين وخمس مائة

فيها أخذ ابن قرابا الرافضي ووجد في بيته يسب الصحابة فقطعت يده ولسانه ورجمته العامة فهرب وسبح في الماء فرموه بالآجر فغرق فأخرجوه وأحرقوه‏.‏

ثم ألحق ذلك بالتتبع على الرافضة وأحرقت كتبهم وانقمعوا حتى صاروا إلى ذلة اليهود وتهيأ عليهم من ذلك ما لم يتهيأ ببغداد نحو مائتين وخمسين سنة‏.‏

وفيها خرج نائب دمشق فرخ شاه ابن أخي السلطان فالتقى الفرنج فهزمهم وقتل مقدما لهم كان يضرب به المثل في الشجاعة‏.‏

وفيها أطلق السلطان حماة عند موت صاحبها - خاله شهاب الدين - لابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر ابن شاهنشاه وأطلق له أيضاً المعرة ومنبج وفاء منه فبعث إليها نوابه‏.‏

وفيها توفي حيص بيص أبو الفوارس سعد بن محمد التميمي الشاعر وله ديوان معروف وكان وافر الأدب متضلعاً من اللغة بصيراً بالفقه والمناظرة‏.‏

وقال الشيخ نصر الله بن محلي‏:‏ - قال ابن خلكان‏:‏ وكان من ثقات أهل السنة رأيت في المنام علي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه - فقلت له‏:‏ يا أمير المؤمنين يفتحون مكة ويقولون‏:‏ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم تم على ولدك الحسين ما تم فقال لي‏:‏ أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا‏!‏‏!‏ فقلت لا فقال‏:‏ اسمعها منه‏.‏

ثم استيقظت فبادرت إلى دار ابن الصيفي فخرج إلي فذكرت له الرؤيا فشهق وأجهش بالبكاء وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي إلى أحد وإن كنت نظمتها إلا في ليلتي هذه ثم أنشدني‏:‏ ملكنا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح وحسبكم هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه يرشح وإنما قيل له حيص بيص لأنه رأى الناس يوماً في حركة مزعجة وأمر شديد فقال‏:‏ ما للناس في حيص بيص‏!‏ فبقي عليه هذا اللقب‏.‏

ومعنى هاتين الكلمتين‏:‏ الشدة والاختلاط‏.‏

وفيها توفيت مسندة العراق شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج الكاتبة العابدة الصالحة الدينورية الأصل البغدادية المولد والوفاة‏.‏

كانت من أهل كتبة الخط الجيد وسمع عليها خلق كثير وكان لها السماع العالي ألحقت فيه الأصاغر بالأكابر سمعت من أبي الخطاب نصر بن أحمد بن النضر وأبي عبدالله الحسين بن أحمد بن طلحة الثعالبي وطراد بن محمد وآخرين واشتهر ذكرها وبعد صيتها وكانت ذات بر وخير‏.‏

والدينورية نسبة إلى دينور قيل بكسر الدال المهملة‏.‏

قال الحافظ أبو سعد السمعاني بفتحها‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ الأصح الكسر‏:‏ وهي بلدة من بلاد الجيل نسب إليها جماعة من العلماء‏.‏

وفيها توفي القدوة المشار إليه بالصلاح والورع والعبادة وإجابة الدعوة أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري الأندلسي قرأ العربية ولزم أبا بكر بن العربي مدة وكان من أولياء الله تعالى الذين تذكر بالله رؤيتهم وآثار مشهورة مشكورة وكراماته موصوفة معروفة مع الحظ الوافر من الفقه والقراءات‏.‏

وفها توفي السديد محمد بن هبة الله بن عبدالله السلماسي الفقيه الشافعي كان إماماً في عسره تولى الإعادة بالمدرسة النظامية ببغداد وكان مسدداً في الفتيا واتقن عدة فنون وهو الذي شهر طريقة الشريف بالعراق وقيل إنه كان يذكر بطريقة الشريف والوسيط والمستصفى للغزالي من غير مراجعة كتاب‏.‏

قصده الناس من البلاد واشتغلوا عليه وانتفعوا به وخرجوا علماء مدرسين مصنفين من جملتهم الشيخان الإمامان عماد الدين محمد وكمال الدين موسى ولدا يونس والشيخ شرف الدين أبو المظفر محمد بن علوان بن مهاجر وغيرهم من الأفاضل والسلماسي بفتح السين المهملة واللام والميم وبعد الالف سين ثانية نسبة الى سلماس‏:‏ وهي مدينة من ‏"‏ بلاد آذربيجان تخرج به جماعة مشاهير‏.‏

 سنة خمس وسبعين وخمس مائة

فيها نزل صلاح الدين على بانياس وأغارت سراياه على الفرنج ثم أخبر بجمع الفرنج وتهيئهم للمجيء فبادر في الحال وكبسهم فإذا هم في ألف قنطارية وعشرة آلاف راجل فحملوا على المسلمين فثبتوا لهم ثم حمل المسلمون عليهم فهزموهم ووضعوا فيهم السيف وأسروا مائتين وستين - أسيراً منهم مقدم لهم فاستفك نفسه بألف أسير وبجملة من الما وانهزم ملكهم جريحاً‏.‏

وفيها جاء أرسلان صاحب الروم في عشرين ألفاً فنهض إليه تقي الدين صاحب حماة وسيف الدين المسطور في ألف فارس فكبسوا على الروميين فركبوا خيولهم عري ونجوا وحوى تقي الدين الخيام بما فيها ثم من على الأسرى بأموالهم وسرجهم‏.‏

وفيها توفي المستضيء بأمر الله بن المستنجد بن المقتفي بن المستظهر بن المقتدي العباسي وبويع بعد أبيه وكان ذا دين وحلم وأناة ورأفة ومعروف زائد‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ أظهر من العدل والكرم ما لم نره في أعمارنا وفرق مالاً عظيماً للهاشميين وفي المدارس وكان ليس للمال عنده وقع أو قال‏:‏ قدر‏.‏

انتهى كلامه‏.‏

قيل‏:‏ وكان يطلب ابن الجوزي ويأمره بعقد مجلس الوعظ ويجلس بحيث يسمع ولا يرى‏.‏

وفي أيامه اختفى الرفض ببغداد ووهي وأما بمصر والشام فتلاشى وزالت دعوة العبيديين وخطب له بديار مصر واليمن وبعض المغرب وبويع بعده ابنه أحمد الناصر لدين الله‏.‏

واليسع بن عيسى بن حزم الغافقي المقرىء أخذ القراءات عن جماعة منهم أبوه وأقرأ بالاسكندرية والقاهرة وقربه صلاح الدين واحترمه وكان فقيهاً مفتياً محدثاً مقرئاً نساباً اخبارياً بديع الخط وقيل‏:‏ هو أول من خطب بالدعوة العباسية بمصر‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو المحاسن عمر بن علي القرشي الزبيري الدمشقي القاضي نزيل بغداد صحب أبا النجيب السهروردي وسمع من أبي الدر ياقوت الرومي وطائفة‏.‏

وتوفي الحافظ المقرىء محمد بن خير الإشبيلي فاق الأقران في ضبط القراءات وبرع في الحديث واشتهر بالإتقان وسعة المعرفة بالعربية‏.‏

وفيها توفي الحافظ ابن أبي غالب الضرير برع في الحديث حتى صار يرجع إلى قوله وانتهى إليه معرفة رجال الحديث وحفظه‏.‏

وفيها توفي أبو الفضل منوجهر بن محمد الكاتب كان أديباً فاضلاً مليح الإنشاء حسن الطريقة روى عن جماعة المقامات عن الحريري‏.‏

وفيها توفي الأستاذ المقرىء المحقق يوسف بن عبدالله الأندلسي المعروف بابن عباد أخذ القراءات عن جماعة وسمع عن خلق كثير واعتنى بصناعة الحديث وكتب العالي والنازل وبرع في معرفة الرجال وصنف التصانيف الكثيرة‏.‏

 سنة ست وسبعين وخمس مائة

فيها نزل صلاح الدين على حمص من بلاد الأرمن فافتتحه وهدمه ثم رج فوافاه التقليد وخلع السلطنة من الناصر لدين الله فركب وكان يوماً مشهوراً‏.‏

وفيها قدم السلطان سيف الإسلام بن أيوب إلى بلاد اليمن مولى عليها بعد أخيه شمس الدولة‏.‏

وفيها توفي القاضي الفقيه العالم الورع الزاهد محمد بن سعيد القريضي - اليمني اللحجي - بسكون الحاء المهملة وكسر الجيم - وكان موصوفاً بالفضائل والمحاسن وله مصنفات حسنة منها‏:‏ المستصفى في ذكر سنن المصطفى ومختصر الإحياء قيل إنه رأى صلى الله عليه وآله وسلم - فدعا له بالتثبيت‏.‏

وفيها توفي القاضي ابن القاضي طاهر ابن الإمام يحيى بن أبي الخير العمراني تقلد ولاية القضاء في أيام شمس الدولة ومات في شهفة - يوم الجمعة منتصف ذي الحجة‏.‏

وفيها توفي أبو طاهر السلفي الحافظ العلامة الكبير مسند الدنيا‏.‏

وفيها توفي معمر الحفاظ أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الأصفاني‏.‏

سمع من الثقفي وأحمد بن عبد الغفار ومكي - الإسلام وخلق كثير وخرج عنهم في معجم وحدث بأصبهان قال‏:‏ وكنت ابن سبع عشرة سنة أو أكثر أو أقل ورحل تلك السنة فأدرك بها أبا الخطاب وابن البطر ببغداد وعمل معجماً لشيوخ بغداد ثم حج وسمع بالحرمين والكوفة والبصرة وهمدان والزنجان والري والدينور وقزوين وأذربيجان والشام ومصر فأكثر وأطال وتفقه فأتقن مذهب الشافعي وبرع في الآدب وجود القرآن بروايات وكان اشتغاله بالفقه على أبي الحسن الكيا وفي اللغة على الخطيب يحيى بن علي التبريزي اللغوي وقصده الناس من الأماكن البعيدة وسمعوا عليه وانتفعوا به ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار - وزير الظافر العبيدي صاحب مصر مدرسة في الإسكندرية وفوضها إليه ومما وجه بخطه من قصيدة لمحمد بن عبد الجبار الأندلسي‏.‏

لولا اشتغال بالأمير ومدحه لأطلت في ذاك الغزال تغزلي لكن أوصاف الجلال غلبنني فتركت أوصاف الجمال بمعزل واستوطن الإسكندرية بضعاً وستين سنة مكباً على الاشتغال والمطالعة والنسخ وتحصيل الكتب وجاوز المائة بلا ريب وإنما النزاع في مقدار الزيادة ومات يوم الجمعة بكرة الخامس ربيع الآخر رحمه الله تعالى‏.‏

وفيها توفي شمس الدولة الملك المعظم توران شاه بن أيوب بن شاذي وكان أسن من أخيه صلاح الدين وكان يحترمه ويتأدب معه‏.‏أرسله فغزا النوبة فسبى وغنم ثم بعثه فافتتح اليمن - وكانت بيد الخوارج الباطنية - وأقام بها ثلاث سنين بعثه إليها لما بلغه أن باليمن إنساناً يسمى عبد النبي بن مهدي يزعم أنه ينتشر ملكه حتى يملك الأرض كلها وكان قد ملك كثيراً من بلاد اليمن واستولى على حصونها وخطب لنفسه فجهز صلاح الدين جيشاً إليها مع أخيه المذكور من الديار المصرية في رجب سنة تسع وستين وخمسمائة فمضى إليها ففتح الله على يديه وقتل الخارجي المذكور الذي كان فيها وملك معظمها وأعطى وأغنى خلقاً كثيراً وكان كريماً أريحياً ثم اشتاق إلى أطيب الشام ونضارتها وكان القاضي الفاضل يكتب إليه الرسائل الفائقة ويودعها شرح الأشواق‏.‏

وكانت له من أخيه إقطاعات وتوابه باليمن يجبون له الأموال‏.‏

ومات وعليه من الديون مائتا ألف دينار فقضاها عنه أخوه صلاح الدين‏.‏ولما تزايد به الشوق قدم إلى الشام وأقام بدمشق نائباً لأخيه ثم تحول إلى مصر فتوفي بالإسكندرية فنقل إلى الشام فدفنته أخته ست الشام بمدرستها التي أنشأتها بظاهر دمشق فهناك قبره وقبر ولدها حسام الدين وكان قد تزوجها ناصر الدين وتوفيت في ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة‏.‏

وحكى الشيخ الأديب الفاضل مهذب الدين أبو طالب - نزيل مصر قال‏:‏ رأيت في النوم شمس الدولة وهو ميت فمدحته بأبيات وهو في القبر فلف كفنه ورماه إلي وأنشدني‏:‏

لا تستقلن معروفاً سمحت به ** ميتاً فأمسيت منه عارياً بدني

ولا تظنن جودي شأنه بخل ** من بعد بذلي ملك الشام واليمن

إني خرجت من الدنيا وليس معي ** من كل ما ملكت كفي سوى كفني

وتوران بضم المثناة من فوق وبعد الواو راء - ومعنى توران شاه‏:‏ ملك الشرق‏.‏

وفيها توفي أبو المفاخر المأموني راوي صحيح مسلم بمصر‏:‏ سعيد بن الحسن العباسي روى الحديث هو وابنه وحفيده ونافلته‏.‏

قلت‏:‏ هكذا قال الذهبي مغايراً بين الحفيد والنافلة والمعروف اتحادهما وهما ولدا ولد نعم قد قيل أيضاً أن الحفدة يطلقون على الأعوان والخدم‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن بن عطار النحوي علي بن عبد الرحمن السلمي كان علامة اللغة وحجة في العربية‏.‏

وفيها توفي أبو العز محمد بن محمد المعروف بابن الخراساني البغدادي الأديب صاحب العروض والنوادر وديوان شعر في مجلدات‏.‏

كان صاحب طرف وذكاء مفرط وتفنن في الأدب روى عن جماعة‏.‏

وفيها توفي صاحب الموصل غازي بن زنكي كان منطوياً على خير وصلاح يحب العلم وأهله وبنى بالموصل المدرسة المعروفة بالعتيقة وقدم مع سيف الإسلام إلى اليمن‏.‏

وفي هذه السنة أو بعدها توفي الفقيه الفاضل القاضي أثير الدين قاضي قضاة المسلمين باليمن وسمع عليه الشهاب وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وسمعه وهو ابن ثلاث سنين سمعه عليه جماعة‏.‏قال ابن سمرة‏:‏ كنت فيهم‏.‏

ثم غضب عليه السلطان سيف الإسلام وحمله رسالة إلى بغداد في صورة طرد وإبعاد ثم رجع إلى مكة وكتب إلى سيف الإسلام سلطان اليمن‏:‏ وما أنا إلا المسك ضاع عندكم يضيع وعند الأكرمين يضوع وفيها توفي - وقيل في سنة تسع - أبو الفضل الشيخ الإمام - رضي الله عنه - الموصلي الشافعي يونس بن محمد بن منعة رضي الدين والد الشيخين‏:‏ عماد الدين أبي حامد محمد وكمال الدين أبي الفتح موسى‏.‏تفقه الشيخ يونس على الحسين بن نصير السكبي الجهني الملقب تاج الإسلام في الموصل حين قدمها وكان أصله من أهل إربل ثم انحدر إلى بغداد وتفقه بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن محمد مدرس النظامية ثم أصعد إلى الموصل فصادف بها قبولاً تاماً عند المتولي بها الأمير أبي الحسن - والد الملك المعطم - وجعل إليه تدريس مسجده وفوض نظره إليه وكان يدرس ويناظر ويفتي فقصده الطلاب للاشتغال عليه والمباحثة مع ولديه المذكورين ولم يزل على قدم الفتوى والتدريس والمناظرة إلى أن توفي بالموصل في السنة المذكورة‏.‏

وكانوا بيت علم خرج من بينهم جماعة من الفضلاء وانتفع بهم أهل تلك البلاد وغيرها وكانوا مقصودين من بلاد العراق والعجم وغيرها‏.‏

وفيها توفي سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي ين أقسنقر صاحب الموصل تقلد المملكة بعد وفاة أبيه مودود ولما توفي والده بلغ الخبر نور الدين فسار من ليلته طالباً بلاد الموصل فوصل إلى الرقة في المحرم سنة ست وستين وخمس مائة وملكها وسار منها إلى نصيبين فملكها في الشهر المذكور وأخذ سنجار في ربيع الآخر ثم قصد الموصل وقصد أن لا يقاتلها فعبر بعسكره من محاصة - وهي بليدة بقرب الموصل - وسار حتى خيم قبالة الموصل وراسل ابن أخيه سيف الدين المذكور وعرفه صحة قصده فصالحه ودخل الموصل وأقر صاحبها فيها وزوجه ابنته وأعطى أخاه عماد الدين سنجار وخرج من الموصل وعاد إلى الشام ودخل حلب في شعبان من السنة المذكورة فلما مات نور الدين وملك صلاح الدين دمشق نزل على حلب فحاصرها وسير سيف الدين جيشاً مقدمه أخوه عز الدين مسعود والتقوا عند قرون حماة فانكسر عز الدين بن مسعود فتجهز سيف الدين بنفسه فخرج إلى لقائه وتصافا على تل السلطان بين حلب وحماة - سنة إحدى وسبعين وخمسمائة فانكسرت ميسرة صلاح الدين بمظفر الدين بن زين الدين فإنه كان في ميمنة سيف الدين - ثم حمل صلاح الدين بنفسه فانهزم جيش سيف الدين وعاد إلى حلب ثم رحل إلى الموصل ولما توفي سيف الدين تولى بعده أخوه عز الدين مسعود‏.‏وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير ذو الجاه الواسع المعروف بمدافع‏.‏